إسرائيل و"الدقيقة 90"- سباق محموم قبل فوات الأوان؟

المؤلف: إيهاب جبارين09.03.2025
إسرائيل و"الدقيقة 90"- سباق محموم قبل فوات الأوان؟

في خضم التحركات الدبلوماسية المحمومة التي تقودها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، سعيًا وراء "تسوية" مع الحوثيين في اليمن، ومع إرسال واشنطن إشارات جلية تنم عن تفضيلها للتهدئة في قطاع غزة، تندفع إسرائيل عسكريًا بوتيرة متزايدة، معلنةً عن انطلاق المرحلة الأولى من عملية "عربات جدعون" بضراوة، وكأنها تخوض الغمار الأخير في معركة فاصلة ومصيرية.

هذا التحرك لا يمثل مجرد تصعيد عابر أو مؤقت، بل هو جزء لا يتجزأ من إستراتيجية شاملة، وصفت في الأوساط العسكرية الإسرائيلية الرفيعة بـ"معركة الدقيقة التسعين" الحاسمة.

هذا الاصطلاح، الذي بدأ يتردد صداه في التحليلات العبرية المتعمقة، يشير بوضوح إلى تكتيك الانقضاض الخاطف في اللحظات الأخيرة، بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الميدانية الملموسة، قبل أن تُغلق نافذة الفرص المتاحة، سواء كان ذلك بسبب ضغوط دبلوماسية مكثفة، أو تفاهمات إقليمية جديدة قد لا تخدم طموحات وأهداف تل أبيب.

ما يميز هذا التكتيك العسكري الطموح هو تركيزه الشديد على السرعة والحسم والفعالية، حيث تسعى إسرائيل جاهدة لفرض وقائع مادية على الأرض يصعب تغييرها أو تجاهلها في أي مفاوضات مستقبلية محتملة.

لكن السؤال الأعمق والأكثر إلحاحًا هو: هل هذا التكتيك ينبع من قوة إسرائيلية راسخة وواثقة، أم أنه يعكس شعورًا بالضغط والاستعجال، نتيجة للتغيرات الإقليمية المتسارعة التي تشهدها المنطقة؟ وما هي المخاطر الجسيمة التي قد تنجم عن هذا النهج المتهور؟

من أين جاء هذا التكتيك؟

التكتيك المعروف بـ"معركة الدقيقة التسعين" ليس وليد اللحظة في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، بيد أنه يظهر اليوم في سياق بالغ الخصوصية. فبحسب تحليلات مفصلة نُشرت في صحيفتي "يديعوت أحرونوت" و"هآرتس" الإسرائيليتين، تدرك إسرائيل تمام الإدراك أن التفاهمات الأميركية مع إيران والحوثيين تسير بخطى أسرع بكثير مما تُعلن عنه واشنطن بشكل علني ورسمي.

هذه التفاهمات، التي قد تشمل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران أو التوصل إلى تسويات مع الحوثيين لتأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر، قد تفرض على إسرائيل قيودًا جديدة ومزعجة، مثل "ضبط النفس" أو حتى وقف العمليات العسكرية في غزة قبل تحقيق الأهداف المعلنة سلفًا، مثل "القضاء التام على حماس"، أو تدمير قدراتها العسكرية بشكل كامل.

في هذا السياق المعقد، تسعى إسرائيل جاهدة إلى ما يُسميه المحللون العسكريون المتخصصون "فرض وقائع ميدانية تحت وابل النيران". هذا يعني تكثيف العمليات العسكرية بشكل ملحوظ لتدمير أكبر قدر ممكن من البنية التحتية المعقدة للمقاومة الفلسطينية في غزة، وعلى وجه الخصوص شبكة الأنفاق المتشعبة في رفح، وتنفيذ عمليات اغتيال نوعية تستهدف قادة ميدانيين بارزين أو شخصيات محورية في حركة حماس، وقد تطال هذه العمليات بين الحين والآخر حتى حزب الله اللبناني.

كما تشمل هذه الإستراتيجية تصعيد الضربات الجوية والبرية ضد أهداف تربطها بإيران في اليمن، بهدف تسجيل إنجازات ملموسة وواضحة يمكن تسويقها على نطاق واسع داخليًا وخارجيًا كـ"انتصارات" حاسمة قبل أن تُطالب إسرائيل بالتوقف الفوري تحت ضغط أميركي أو دولي مكثف.

هذا النهج يعكس قراءة إسرائيلية دقيقة للتوقيت السياسي الحساس. ففي الوقت الذي تُظهر فيه واشنطن استعدادًا جادًا للتفاوض مع أطراف كانت تُصنف سابقًا كـ"معادية"، تشعر إسرائيل بقلق بالغ من أن نافذة العمل العسكري الحرّ قد تُغلق قريبًا، ومن هنا يأتي التركيز المتزايد على تحقيق نتائج سريعة وملموسة يمكن أن تُستخدم كورقة ضغط قوية في أي مفاوضات مستقبلية معقدة.

ما الذي تخشاه تل أبيب؟

المخاوف الإسرائيلية لا تقتصر بأي حال من الأحوال على مجرد احتمال وقف إطلاق النار في غزة، بل تمتد لتشمل سيناريوهات أكثر تعقيدًا وخطورة. وأبرز هذه المخاوف هو أن يتحوّل الاتفاق الأميركي المحتمل مع الحوثيين إلى نموذج تفاوضي يُطبق لاحقًا مع حماس أو حزب الله، أو حتى مع إيران مباشرة.

مثل هذا النموذج قد يعني إبرام تسويات إقليمية واسعة تتجاوز إسرائيل وتهمشها، مما يُفقدها دورها المحوري كطرف مركزي في صياغة المعادلات الأمنية والسياسية المعقدة في المنطقة.

في أوساط الأمن الإسرائيلي، يُنظر إلى هذا الاحتمال على أنه تهديد إستراتيجي وجودي. فإسرائيل، التي لطالما اعتمدت على موقعها المتميز كحليف رئيسي لواشنطن في المنطقة، تخشى بشدة أن تُصبح مجرد "متفرج" ثانوي في ظل تفاهمات أميركية مع خصومها اللدودين.

هذا القلق يتفاقم بشكل ملحوظ مع تزايد الإشارات القوية إلى أن إدارة ترامب قد تُعطي الأولوية المطلقة لمصالحها الاقتصادية والسياسية الخاصة، مثل تأمين الملاحة الدولية في البحر الأحمر، أو خفض التوترات الإقليمية المتصاعدة، على حساب الأهداف الإسرائيلية المعلنة.

علاوة على ذلك، هناك مخاوف داخلية متزايدة من أن أي تسوية تُبرم دون تحقيق "نصر واضح وملموس" في غزة ستُضعف موقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سياسيًا وإستراتيجيًا. فنتنياهو، الذي يواجه ضغوطًا داخلية متزايدة بسبب الإخفاقات المتتالية في إدارة الحرب، يرى في استمرار العمليات العسكرية فرصة ذهبية لتحسين صورته المتدهورة أمام الجمهور الإسرائيلي، خاصة في ظل التحديات القانونية والسياسية الكبيرة التي يواجهها.

لماذا تبدو إسرائيل مستعجلة الآن؟

هناك أربع إشارات رئيسية وواضحة دفعت إسرائيل إلى رفع وتيرة عملياتها العسكرية بشكل ملحوظ في هذه المرحلة الحساسة:

  1. التقدم الدبلوماسي الأميركي مع الحوثيين: الإعلانات الأميركية الأخيرة عن تحقيق "تقدم إيجابي" ملموس في المفاوضات مع الحوثيين تُشير بوضوح إلى احتمال إغلاق جبهة البحر الأحمر الملتهبة، وهي إحدى الجبهات الرئيسية التي تُشغل إسرائيل عسكريًا واقتصاديًا بشكل كبير. هذا التقدم يُقلل من قدرة إسرائيل على استخدام تهديد الحوثيين كذريعة واهية لتصعيد عملياتها العسكرية.
  2. سحب حاملة الطائرات ترومان: قرار الولايات المتحدة المفاجئ بسحب حاملة الطائرات "ترومان" العملاقة من المنطقة يُفسر في تل أبيب كإشارة قوية إلى أن واشنطن تُفضل خفض التصعيد العسكري وتقليص وجودها العسكري في المنطقة بشكل عام، مما يُضعف الغطاء الأميركي الداعم للعمليات الإسرائيلية.
  3. تحذيرات داخلية من التباطؤ: في الكنيست والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ترتفع الأصوات التي تحذر بجدية من أن أي تباطؤ أو فتور في العمليات العسكرية سيمنح حماس وإيران فرصة ذهبية لإعادة ترتيب أوراقهما وتعزيز مواقعهما الإستراتيجية. هذه الأصوات تُطالب بإلحاح باستغلال الوقت المتبقي لتحقيق أكبر قدر ممكن من الضرر لقدرات حماس العسكرية.
  4. حسابات نتنياهو السياسية: بالنسبة لنتنياهو، فإن أي وقف للقتال قبل تحقيق صورة "نصر واضح" يُشكل تهديدًا مباشرًا لاستقرار حكومته الهشة. ففي ظل الانتقادات المتزايدة لأدائه في إدارة الحرب، يرى نتنياهو أن تصعيد العمليات العسكرية قد يُعزز موقفه المتأزم أمام خصومه السياسيين.

ما هي "المكاسب" التي تحاول إسرائيل اقتناصها؟

تسعى إسرائيل جاهدة من خلال تكتيك "معركة الدقيقة التسعين" إلى تحقيق مجموعة من الأهداف الملموسة والرمزية، والتي تشمل:

تفكيك شبكة الأنفاق في رفح

تُعتبر هذه الشبكة المعقدة والمتشعبة العمود الفقري لقدرات كتائب القسام العسكرية. فتدميرها أو إضعافها بشكل كبير سيُمكن إسرائيل من تسويق صورة زائفة لـ"إتمام المهمة" بنجاح في غزة، حتى لو كانت هذه الصورة بعيدة كل البعد عن الواقع المرير.

إثبات تفوق استخباراتي

من خلال تنفيذ عمليات اغتيال نوعية تستهدف قادة بارزين في حماس أو حزب الله، تسعى إسرائيل جاهدة لاستعادة هيبة جهازها الاستخباراتي المترنح، والذي تلقى ضربة قوية ومؤلمة بعد هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

الضغط على إدارة ترامب

من خلال تصعيد العمليات العسكرية، تحاول إسرائيل الضغط على الإدارة الأميركية ودفعها إلى موقف محرج، إما بالتورط المباشر في دعم التصعيد العسكري أو بالظهور بمظهر الدولة التي "تخذل" حليفتها الإسرائيلية، مما يمنح تل أبيب نفوذًا أكبر في المفاوضات القادمة.

إعادة تأهيل الردع الإقليمي

من خلال شن ضربات متزايدة ضد أهداف في اليمن، تسعى إسرائيل جاهدة لإرسال رسالة قوية إلى طهران ووكلائها بأنها لا تزال القوة المهيمنة في المنطقة بلا منازع.

في الميزان: من يملك قرار النهاية؟

على الرغم من الوتيرة العالية للعمليات الإسرائيلية، يتضح جليًا أن قرار إنهاء هذه الحرب لا يقع بيد تل أبيب وحدها. فالقرار تتقاسمه مع واشنطن، لكونها اللاعب الأقوى والأكثر نفوذًا في المنطقة، فوحدها تملك الولايات المتحدة القدرة على ضبط إيقاع التصعيد أو التهدئة من خلال دعمها العسكري والدبلوماسي غير المحدود لإسرائيل.

إسرائيل لا ترغب في إنهاء الحرب في هذه اللحظة، لكنها تدرك تمام الإدراك أن الوقت يمر ضدها. ففي ظل عجزها الواضح عن تحقيق "نصر مقنع" يُلبي طموحاتها الإستراتيجية، تلجأ إلى تكتيك "نصر اللحظة الأخيرة" اليائس، حتى لو كان هذا النصر وهميًا أو مؤقتًا.

لكن هذا النهج محفوف بالمخاطر الجسيمة، إذ قد يُفضي إلى فتح جبهات جديدة بدلًا من إغلاق الجبهات القائمة، ففي نهاية المطاف، تبقى المعادلة مفتوحة على احتمالات متعددة، حيث يتوقف المشهد برمته على مدى قدرة إسرائيل على إدارة هذا التكتيك المحفوف بالمخاطر دون الانزلاق إلى حرب إقليمية أوسع قد لا تكون مستعدة لها على الإطلاق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة